لم تعد أعيننا مرآة للثقة كما كانت، في زمن تتسابق فيه التقنية، نشاهد مقاطع مصوّرة تُثير الرهبة أو الدهشة، ثم نتساءل: هل هذا مشهد حقيقي؟ أم خدعة رقمية مُتقنة؟ هذه الحيرة تتسلل إلى وعينا، فتُربك إدراكنا وتُضعف قدرتنا على التمييز بين ما هو واقعي وما هو مُفبرك. بل إن الشعور بالارتباك بات جزءًا من حياتنا اليومية؛ فالمواقف، والمشاعر، وحتى الوجوه.. أصبحت جميعها عرضة للتزييف. لا خلاف على أن أدوات الذكاء الاصطناعي تمثّل طفرة تقنية غير مسبوقة، أحدثت نقلة نوعية في مجالات التعليم، والطب، والصناعة. لكنها -في غياب التشريعات الرادعة- تحوّلت أيضًا إلى سلاح يمكن استخدامه في تزييف الواقع وتوجيه الرأي العام من خلال محتوى مصطنع يبدو حقيقيًا. وأنا، كمواطنة تُدرك أهمية التقنية، لا أرى في الذكاء الاصطناعي خصمًا، بل أراه أداة حيادية تحتاج إلى ضوابط صارمة كي لا يُساء استخدامها. الثقة في العين والمحتوى البصري لم تعد كالسابق. أصبحنا نُشكّك فيما نراه، حتى وإن بدا مقنعًا. وهذا الانهيار في الثقة لا يؤثر فقط على الأفراد، بل ينعكس على الوعي الجماعي، وعلى ممارسات الصحافة، وعلى مصداقية السياسة، بل وحتى على العلاقات الاجتماعية اليومية. فإذا فقدنا الثقة في ما نشاهده، فبأي مرجع يمكننا أن نستند؟ وإن لم نثق بأعيننا، فبماذا نثق إذًا؟ كثير من المقاطع المتداولة اليوم تُظهر أشخاصًا يقولون أو يفعلون أشياء لم تحدث في الواقع. بل تُنتَج أحيانًا مقاطع من العدم، ثم تُقدَّم كأنها لحظات حقيقية، مما يجعل المتلقي –خصوصًا من فئة الأطفال والمراهقين– عرضة للتصديق والتأثر، دون إدراك أن ما يشاهدونه ليس سوى محاكاة مزيفة. لم يعد التلاعب بالمحتوى حكرًا على المحترفين، بل صار متاحًا للجميع. بفضل أدوات رقمية مدعومة بالذكاء الاصطناعي، يمكن لأي شخص أن يُعدّل صورة أو يُركّب فيديو أو يُنتج مشهدًا كاملًا من دون أي خبرة. يكفي فقط الوصول إلى المنصة، لتبدأ سلسلة من المحتوى المُضلّل في الانتشار. وبينما تتسارع التقنية بوتيرة غير مسبوقة، نجد أن التشريعات والأنظمة التنظيمية تتحرك ببطء شديد. صحيح أن بعض الجهات بدأت بوضع قوانين وإرشادات، إلا أن الواقع يُظهر أن المحتوى المزيف ينتشر بأضعاف تلك الجهود، ويُستخدم في أغراض قد تكون خطيرة أو مؤذية. إن فتح المجال لأي شخص لاستخدام أدوات قادرة على صناعة واقع مزيف، دون ضوابط واضحة، يُهدد الاستقرار المعلوماتي. مما يستدعي تشريعات حازمة، تضع خطوطًا حمراء لا يمكن تجاوزها. فالحقيقة ليست رأيًا، بل مسؤولية يجب أن تُصان. ما نحتاجه اليوم ليس قوانين فقط، بل وعي جمعي متجدد، وتعليم مستمر لمهارات التحقق من المعلومات، وتمكين الأفراد من كشف التزييف. فالتحول الرقمي بحد ذاته ليس المشكلة، بل غياب المعايير. وإذا لم نُحصّن المجتمعات من هذا الخطر، فإن الذكاء الاصطناعي قد يتحوّل من نعمة إلى أداة تُشوش الإدراك وتُفكك الثقة. حين تصبح الحقيقة قابلة للتعديل، والوهم قابلاً للتصديق، فإن أخطر ما نواجهه ليس التضليل فقط، بل اعتياد العيش فيه.